قراءة في مقال «عالم بدون إسلام»
ينادي كثير من المفكرين، والكتاب الغربيين، باحترام وحفظ حق الآخر في الاختلاف والتعددية؛ إيماناً منهم بالحرية الفكرية، وبالتعددية الثقافية/ الاجتماعية. وفي كل مناسبة يؤكدون على أن الخلفية الأيدلوجية للإعلامي، أو المفكر، يجب أن لا تتدخل في قراءة الأحداث، وتؤثر عليه في تفسير تصرفات الآخرين. مع احتفاظ كل طرف بحقه الكامل في بناء إيديولوجيته الخاصة، حسبما يراه، ويقتنع به.
ومع ترديد الإعلام الغربي لهذا الأمر، وتأكيدهم عليه، إلا أن المتتبع لبعض مقالات وتغطيات الوسائل الإعلامية الغربية للشأن العربي الإسلامي.. والنيل من الإسلام تحت ذريعة: الإرهاب/ الديمقراطية/ حماية حقوق الإنسان... إلخ خاصةً في عام 2007 الماضي يجد أن الإعلام الغربي في مجمله لم ينفك عن القراءة المؤدلجة، ولم يتورع عن التهويل غير العقلاني. حتى وصل الأمر ببعضهم أن وصف الإسلام بأنه (إسلام فاشي)! فأين موقع ذلك الإعلام من مبادئه التي يدعو إليها، وما فتئ يرددها علينا صباح مساء؟!
ومن باب الإنصاف، فإنه مع إطلالة العام الجديد، وفي الأسبوع الأول منه، سطر لنا (غراهام فولر) في عدد يناير فبراير 2008، من مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية (Foreign Policy)، مقالاً بعنوان: (عالم بدون إسلام). تساءل فيه عما يحدث في العالم اليوم.. قائلاً: «لو تصورنا شرق أوسط خاليا من الإسلام هل سيتغير الحال؟ وكيف ستكون علاقة الشرق بالغرب؟».
ويقول إنه لا يمكن أن نتجاهل تأثر شعوب الشرق الأوسط بظهور الإسلام. الذي أعتبره عنصر وحدة، كقوة عقدية عالمية، صنعت حضارة تتقاسم قيماً عامة في مجال الثقافة والفن والمجتمع، وتقدم رؤية خاصة للحياة بمفهوم العدالة والقضاء والحكم النزيه. ويقر الكاتب بأن الإسلام استطاع كقوة ثقافية وأخلاقية أن يردم الفروقات الإثنية بين مختلف الشعوب المسلمة، وأن يجعلها تشعر بالانتماء للمشروع الحضاري الواحد، فأفرز ذلك نموذجاً موحداً لهذه الأمم، يحفظ كيانها ضمن منظومة قوية
.
ويؤكد على أن الإرهابي لا يشترط أن يكون مسلماً.. ويستطرد متسائلاً: هل نسيت الذاكرة الأمريكية إرهاب عصابات اليهود ضد البريطانيين في فلسطين؟! أم نسيت منظمة نمور التاميل، الذين اخترعوا فن الانتحار؟! أم نسيت الفيتناميين، وعملياتهم الانتحارية ضد الأمريكيين؟!
كان الكاتب منصفاً، ومحايداً، ولم يخضع لأي مؤثر خارجي، حين يقول: «هل يعقل أن يعادي الإسلام التحديث.. في حين أن المفكرين المسلمين بشروا بالنهضة منذ مطلع القرن العشرين؟!» ليقرر في نهاية مقاله، أنه لو لم يكن هناك إسلام، لوجد المظلومون، والمقاومون للاحتلال، أسباباً ودوافع أخرى غير الإسلام وذلك لأن الفيصل هو الصراع على: القضايا التاريخية (الجيوبوليتكية) والأطماع في الثروات... الخ.
يمثل كاتب هذا المقال نموذجاً من النماذج المنصفة في الوسط الفكري والإعلامي الأمريكي، كما يمثل مقاله هذا دعوة لوسائل إعلامه، ولمفكريه، بأن يدركوا البعد العقلاني والموضوعي الذي يطالبون به غيرهم، ويكررونه على أسماع الآخرين.
فهم يقولون إن العقل يقف فوق رؤوس الجميع، وإن العقل يطرد الظلمات، وإن العقل يحقق العدالة والمساواة... الخ. لكن يصدمون المتابع لإعلامهم، بعوامل أخرى لها تأثيرها وفعلها، غير العقل، كالأهواء، والعواطف المشبوهة والعنصرية، والتشويه، والتزييف والتحيز الإعلامي المتطرف.
فالتطرف (كما وصفه الجابري) موقف غير عقلاني لا يصدر عن العقل بل عن العاطفة والانفعال والهوى. أما الموقف العقلاني فمن شروطه: التجرد من الهوى والعاطفة، والنظر إلى الأمور كما هي في ذاتها.
إن هذا المقال يمثل قيمة موضوعية في تفعيل العقل، تجعل التفاهم بين الحضارات والأفراد ممكناً؛ فالموضوعية تقوم على الاعتراف بجميع الأطراف. ثم الإقرار والتسليم بالاختلاف. عكس التطرف.
ونحن نفتتح العام الجديد، بهذا المقال التفاؤلي الموضوعي المنصف عن الإسلام، ومن إحدى أكبر المطبوعات السياسية المتخصصة والأوسع انتشاراً في الوسط السياسي العالمي، فذلك يمثل تحدياً حقيقاً لنا، يتطلب منا التعامل مع ما يطرح في الغرب عن الإسلام تعاملاً عقلانياً، حتى وإن تخلى بعض أصحاب الفكر العقلاني كما يزعمون عن
منهجهم، وتبنوا أفكاراً متطرفة تجاهنا، فالصدام لا يمكن أن يبني حضارة، ولا أن يحقق تواصلاً أو تعاوناً، بل إن تلاقح الأفكار، وفتح أبواب الحوار على مصاريعها، مع الغرب، هو الحل، دون أن نتمحور حول ذاتنا، ونجعل ردود الأفعال (غير الراشدة) هي المحددة للتعامل مع الغرب، بل نجعل مثل تلك المقالات المنصفة هي نقاط لصالحنا، نستغلها في تعريف العالم بديننا، وقيمنا، وحضارتنا (مقرين بأننا كما نطلب من الغرب أن يكون منصفاً معنا، علينا أيضاً أن نكون منصفين معه)، وأن نستفيد منها في نقد الذات، وتصحيح المسار.