غادر الرئيس التونسي الأسبق "بن علي" كرسي الرئاسة تحت ضغط الشارع بسرعة لم تكن متوقعة، وزاد من دهشة المراقبين أن يغادر بن علي البلاد على طريقة الفرار بالجلد، مما يعني أن الأنظمة السياسية المبنية على سلطة الشخص الواحد تنتهي دائما نهاية غير مشرفة لذلك الشخص، وربما تؤدي الى فراغ يستغله المتضررون من الوضع الجديد في شكل الثورة التي تأكل الثورة.
حقيقة، توقع الجميع سقوط حكم بن علي لأن التاريخ حافل بمثل المشهد التونسي، وحتى التاريخ القريب، أي المعاصر، سجل كيف رحل شاه ايران، شاوسيسكو رومانيا، نميري السودان وسادات مصر، ولكن لا أحد تخيل أن ينقلب الرجل الديكتاتور القامع للحريات الى مهادن مهادئ ثم الى باحث عن الفرار في لحظات، وأن ينقلب خطابه من وصف للاحتجاج وسط التونسيين بالحركة الإرهابية الى وصفه بالحركة الشرعية الواجب فهمها في بضعة أيام، ولكن ماذا يعني أن يسقط نظام تونس المبني على الشخص الواحد بهذه السرعة؟ وما هي الدروس التي يمكن لما تبقى من الأنظمة العربية الاستفادة منها في سبيل تحسين اوضاع الديمقراطية في بلادها؟
الدرس التونسي
قبل أسابيع كتبنا عن تحرر الشعوب بعنوان "تحررت الشعوب ولم تتحرر" حيث بدا واضحا من خلال التحليل أن ارتباط أي نظام سياسي ببقايا الاستعمار يولد تسييرا رديئا للاقتصاد وللحياة والسياسية بسبب نزعة الاستعمار في أن تبقى ميزة التفوق لصالحه، وهذا ما وقع بتونس حيث ظلت الديكتاتورية تستمد أمانها من الحضور الفرنسي في دواليب السلطة من خلال بقاياه، ويجسد النظام التونسي السابق ميزة الديكتاتورية التي ترضي الاستعمار ولكن بشكل مبالغ فيه حيث تم إعدام المعارضة، قتل الرأي الآخر، التنكيل بالعلماء وإفراغ "الزيتونة" من محتواه الحضاري، وظلت تونس سوقا لفرنسا في تسويق سلعها وخدماتها وثقافتها ولغتها، وبينت بيانات الوضع المعيشي للسكان أن العدد القليل من التونسيين هو من استفاد من التطور الاقتصادي للبلد، أي الطبقة البرجوازية الناشئة، أما الغالبية من السكان فكانوا ضحية الظلم الاجتماعي والتهميش وضعف المشاركة الديمقراطية والتمييز في توزيع الدخل، أما نخبة المجتمع من الصحافيين والنقابيين والمثقفين فظلوا لعشرات السنين مطاردين في الداخل وفي الخارج، عوامل سرعت من عملية الانفجار التي نأمل أن تكون ثورة حقيقية تصلح لأن تكون دليلا لبقية الشعوب التي تمر بنفس الظروف .
الصفعة الفرنسية
رفضت باريس استقبال طائرة الرئيس المخلوع بن علي على الرغم من الثقة الكبيرة التي يكنها هذا الأخير لفرنسا ودرجة الأمان التي كان يشعر بها النظام التونسي تجاه الفرنسيين، ولكن قصر الاليزي كان له رأي آخر، فالأنظمة الديكتاتورية أوراق خاسرة وهي تصلح -فقط- لخدمة المحتل عندما تكون مسيطرة، أما في حالة الضعف فلا تصلح لشيء،
وبالفعل، بيّن الخطاب الأخير للرئيس بن علي درجة الضعف التي بلغها عندما استخدم لهجة التوسل لشعب مثقل بهمومه بدل لهجة الزعيم الذي يفترض ألا يضحي بشخصيته الكاريزمية مهما كانت الظروف، فرنسا صفعت أحد الأنظمة العربية المستبدة بيد لا ترحم وستصفع آخرين كلما حانت الفرصة لذلك، لأن باريس لا ترى في مستعمراتها السابقة سوى أسواق رائجة، وهي لا تأبه كثيرا للأنظمة، فليرحل النظام ولكن يجب العمل على بقاء الأسواق، ولذا تعد الصفعة الفرنسية لبن علي رسالة من باريس للتونسيين بأنها تساند موقفهم وعليهم إذن أن يحافظوا على مصالحها في المنطقة مستقبلا، فهل يستجيب التونسيون للرسالة الفرنسية، أم أن تونس الجديدة ستستكمل تحررها واستقلالها عن المركز الاستعماري؟
الكرامة قبل الخبز
نعم، حركت الأحوال الاقتصادية عدة شعوب في المنطقة العربية، وهذا طبيعي، لأن الثورات تحتاج أولا الى سوسيولوجيا التغيير، وتبدأ هذه السوسيولوجيا من توسع رقعة المظالم وضيق أفق العدل، وفي الحديث النبوي الشريف "كاد الفقر أن يكون كفرا" أي أن المعاش جزء من سلوك الفرد، وكلما كانت الأحوال الاقتصادية هشة توسعت رقعة الشعور بالظلم وضاقت هوامش امتصاص الغضب، وخاصة عندما يشعر الجميع بأن تردي المستوى المعيشي للسكان ناجم عن سوء توزيع الثروة وليس بسبب ندرة الموارد .
موضوع الأسعار هو القطرة التي تفيض الكؤوس أو الشعلة التي توقظ النار في كومة من الهشيم المتراكم أو المفتاح الذي يجعل محرك السيارة يشتغل، أما حقيقة الأشياء فهي الظلم تهميش الشعوب وسوء تقدير عواقب الفساد وضعف المساءلة الديمقراطية ونشوء البرجوازية الصغيرة وعدم جدوى الحلول التي تقترحها السلطات، وجميعها عوامل تغذي الثورة التي تبحث دائما عن شرارتها الأولى ولو في مستوى الأسعار وغلاء المعيشة والبطالة .
لقد وعد بن علي شعبه بخفض أسعار الغذاء أسوة بالجزائر والأردن ووعد بتوفير الخبز للجميع ولكن نسي " بن علي " بأن " الكرامة قبل الخبز ".