زي نفسه في سوق سيدي بوزيد التونسية انتقلت نيران روحه ''المحقورة'' شيئا فشيئا حتى اشتعلت أثواب بن علي.
كان بن علي في عهده ديكتاتورا صغيرا شبيها ببطريرك غارسيا ماركيز الغنائي، يعني أقل سفالة من سبينوزا أو شاه إيران أو فرانكو، أولئك الذين كانوا يضعون على قائمة طعامهم أرواح من يعتبرونهم أعداءهم. لكنه رغم جبروته وهيلمانه استطاع شاب، لا وجود له في قائمة خصومه ومعارضيه المدفوعي الأجر أحيانا، أن يحرق إمبراطوريته المسيّجة بالمخبرين وأجهزة الأمن والحزب والجيش والقهر أيضا، وأن يجعل منه ديكتاتورا مفضوحا يطرق أبواب الأصدقاء فلا تُفتح، ويحاول أن يطرق أبواب الخصوم فلا يفلح.
ذلك الشاب المتواضع الذي يبيع الخضار على هامش سوق بلدته، والذي لا يحسب له نظام الديكتاتور حسابا في برامجه التنموية الوهمية، هو الذي قَوَّض أركان المجد الوهمي الذي يصنعه أمثال الجنرال بن علي. ومثلما يقول المثل الشعبي: ''العود اللي تحفرو يعميك''!؟ وقد احتقر نظام بن علي شعبه فأعمى عينيه شاب صغير بدخان روحه الجائع للخبز والحرية، وأخرجه من مملكته ذليلا مهانا يتلمس الأرض على طريقة أوديب بعصاه فلا تدله على طريق سالك.
كان والدي يحكي لي في طفولتي، عن قارون وما أدراك ما قارون الذي دانت له الدنيا وخضعت له الممالك وكاد يعلن نفسه ربا صغيرا على الأرض، لكن الله العزيز القدير سلط عليه ذبابة، مجرد ذبابة من مخلوقاته الحقيرة، دخلت أنفه وتسللت إلى رأسه، فأصبح ذلك الجبار العنيد الذي تعفـّرت جباه الرجال بغبار قدميه، يطلب منهم أن يضربوه على رأسه بأحذيتهم كي يخففوا عليه قليلا طنين تلك الذبابة لعله ينام مرتاحا.
ثم ألا يشبه خروج بن علي المخزي خروج سالازار الذي أدمى روح شعبه بالدبابات والأحذية العسكرية، فضربه شعبه بأزهار القرنفل الطرية حتى هزمه.
صحيح ليست كل أزهار القرنفل قادرة على إسقاط ديكتاتور، وليس كل الشباب لهم روح مقدس مثل التونسي البوعزيزي، ولكن الشعوب تخترع أسلحتها القوية أحيانا، والناعمة أحيانا أخرى، لإلحاق الهزيمة بالديكتاتور. ذلك لأن: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر!