موضوع: أمُّ الخبائثِ الأربعاء 2 يونيو 2010 - 14:31
أمُّ الخبائثِ
الشيخ : حمود بن حميد الصوافي
من رحمةِ اللهِ تعالى بالإنسانِ أنْ حرمَ عليه كلَّ ما يضرُّ بعقلِه، وكلَّ ما يضرُّ بجسدِه، وكلَّ ما يضرُّ بمالِه، وكلَّ ما يضرُّ بعرضِه، وقد حرمَ اللهُ سبحانه وتعالى الخمرَ لفنونِ أضرارِها المتنوعةِ المتعددةِ التي تتناولُ العقلَ والجسدَ والمالَ والولدَ والعرضَ والشرفَ والأسرةَ والمجتمع، فهي أمُّ الخبائثِ، وجماعُ الإثمِ، ومفتاحُ الشرورِ، والداعيةُ إلى الفجورِ، تقطعُ الصِّلاتِ، وتثيرُ العداوةَ والبغضاءَ، وتفضي إلى سفكِ الدماءِ واستباحةِ الحرماتِ، عواقبُها وخيمةٌ، وعقوبتُها أليمةٌ، والقلوبُ المحبةُ لها سقيمةٌ، والبليّةُ بها داهيةٌ عظيمةٌ، فكم سلبت من نعمةٍ، وكم جلبت من نقمةٍ، وكم خربت من دارٍ، وكم أذهبت من عقارٍ، وكم من عقلٍ صحيحٍ نقلته من حالةِ العدلِ والتفكيرِ، وحسنِ التدبيرِ إلى حالةِ الجنونِ والخيالِ والفسادِ الكبيرِ. وقد كان العربُ في جاهليتِهم مولعينَ بشربِها والمنادمةِ عليها، فلما جاءَ الإسلامُ نجحَ في محاربتِها والقضاءِ عليها حيثُ أخذَهم بمنهجٍ تربويٍّ صحيحٍ، وتدرجَ معهم في تحريمِها، فأخبرَهم أولاً بأن إثمَها أكبرُ من نفعِها، ثم نهاهم عن الصلاةِ وهم سكارى، ثم حرمَها عليهم تحريما قطعيا بقولِه عزَّ من قائلٍ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) (المائدة: 90 - 91)، ففي هاتينِ الآيتينِ أكَّدَ اللهُ سبحانه وتعالى تحريمَ الخمرِ والميسرِ ـ وهو القمارُ ـ تأكيدًا بليغًا؛ إذ قرنَهما بالأنصابِ والأزلامِ، وسماهما رجسًا، والرجسُ هو الخبيثُ الذي تستقذرُهُ القلوبُ السليمةُ، وهو لا يطلقُ بالقرآنِ إلا على ما اشتدَّ خبثُه وقبحُه، وجعلَهما من عملِ الشيطانِ، وعملُه الفحشاءُ والمنكرُ، لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) البقرة: 168 - 169، وأمرَ باجتنابِهما، وجعلَ هذا الاجتنابَ سبيلاً إلى الفلاحِ، وبينَ من أضرارِهما الاجتماعيةِ تقطيعَ الصلاتِ، وإيقاعُ العداوةِ والبغضاءِ بسببِ الخمرِ معروفٌ من قديمِ الزمانِ وحديثِه؛ لأنَّ الإنسانَ إذا شربَ الخمرَ وسكرَ هاذى وافترى وسبَّ وضربَ، فتحصلُ بذلك العداوةُ والبغضاءُ، وقد رُوِيَ أنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلّمَ قالَ لأشجِّ عبدِ القيسِ: "ما هذه الشجّةُ التي أرى في وجهِكَ؟"، قالَ: يا رسولَ اللهِ إن رجلاً من قومي شربَ الخمرَ فسكرَ فضربني، فقالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: "هكذا تفعلُ الخمرُ بشاربِها، قاتلَ اللهُ الخمرَ"، وبينَ من أضرارِهما الروحيةِ الصدَّ عن الواجباتِ الدينيةِ من ذكرِ اللهِ والصلاةِ، فشاربُ الخمرِ بعيد عن الصلاحِ والصلاةِ، ولو حافظَ على صلاتِه لنهتْه عن ارتكابِ المنكراتِ،( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) العنكبوت: 45)، ولكنهم في غفلتِهم ساهون، ألسنتُهم لاغيةٌ، وقلوبُهم لاهيةٌ (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) المجادلة: 19، ثمَّ طلبَ الانتهاءَ عنهما بأبلغِ عبارةٍ، إيذانًا بأن الأمرَ في الزجرِ والتحذيرِ، وكشفِ ما فيهما من مفاسدَ قد بلغَ الغايةَ، وأنَّ الأعذارَ قد انقطعت بالكليةِ، لمّا سمعَ الصحابةُ ـ رضوانُ اللهِ عليهم ـ هذا البيانَ الحاسمَ كان جوابُهم: قد انتهينا يا رب، قد انتهينا يا رب، ورُوِيَ أنَّ جماعةً من الأنصارِ كانوا جلوسًا في بيتِ أبي طلحةَ على شرْبٍ، فسمعوا صوتًا عليًا، فقال أبو طلحةَ: قمْ يا أنسُ فانظرْ، فنظرَ ثمَّ رجعَ، فقالَ: هذا منادي رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ ينادي بتحريمِ الخمرِ، وكانت الكاساتُ في أيديهم، فأخذوا يضربون بها الحيطانَ، ويقولون سمعًا وطاعةً للهِ ورسولِه، ثم ذهبوا إلى السوقِ وفيها ظروفُ الخمرِ، فجعلوا يضربونها بالسكاكينِ حتى سالت في الأزقةِ، وعن أنسِ بنِ مالكٍ قال: كنتُ أسقي أبا دجانةَ وأبا طلحةَ وأبيَّ بنَ كعبٍ شرابًا من فضيخِ التمرِ، فجاءهم آتٍ، فقالَ: إنَّ الخمرَ قد حُرِّمت، فقالَ أبو طلحةَ: يا أنسُ قمْ إلى هذه الجرارِ فاكسرْها، فقالَ أنسٌ: فقمتُ إلى مهراسٍ لنا، فضربتها بأسفله حتى انكسرت. وقد جاءت الأحاديثُ الكثيرةُ عن رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ في تحريمِ الخمرِ والتحذيرِ منها والوعيدِ عليها، فعن أبي سعيدٍ الخدريِّ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: "مَن شربَ الخمرَ في الدنيا، ثمَّ لم يتبْ منها حرمَها في الآخرةِ"، وجاء عن النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ : "مَن ماتَ وهو يشربُ الخمرَ كان حقاً على اللهِ أن يسقيَه من طينةِ الخبالِ"، وهي عصارةُ أهلِ النارِ وقيحُهم وصديدُهم، وعن عبداللهِ بنِ عمرو بنِ العاصِ قالَ: سألتُ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ عن الخمرِ فقالَ: "أكبرُ الكبائرِ وأمُّ الفواحشِ، مَن شربَ الخمرَ تركَ الصلاةَ، ووقعَ على أمِّه وخالتِه وعمتِه"، وعن عبادةَ بنِ الصامتِ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ : "ليستحلنَّ آخرُ أمّتي الخمرَ بأسماءٍ يسمونها بها"، والخمرُ هو ما خامرَ العقلَ، فـ"كلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكلُّ خمرٍ حرامٌ"، و"ما أسكرَ كثيرُه فقليلُه حرامٌ". إنَّ الإسلامَ إذا حرمَ شيئًا حرمَ كلَّ ما يكونُ ذريعةً إليه، ومن هنا حرّمَ الإسلامُ بيعَ الخمرِ وإهداءَها والانتفاعَ بثمنِها، فيحرمُ على المسلمِ أن يتجرَ بالخمرِ ولو مع غيرِ المسلمين، كما يحرمُ عليه استيرادُها، وإصدارُ رخَصٍ لبيعِها، والاشتراكُ مع من يتجرُ بها بأيِّ وسيلة كانت، فعن ابنِ عباسٍ قالَ: أهدى رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم راويتيْ خمرٍ فقالَ له رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: "أمَا علمتَ أنَّ اللهَ حرّمَها؟"، قالَ: لا، فسارَّ إنسانًا، فقالَ له رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: "بمَ سارَرْتَه؟"، فقالَ له: أمرتُه أن يبيعَها، فقالَ له رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: "إنَّ الذي حرمَ شربَها حرمَ بيعَها"، ففتح المزادتين، وهما الراويتانِ، حتى ذهبَ ما فيهما، وعن جابرٍ قالَ: خطبَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ عامَ الفتحِ فقالَ: "إنَّ اللهَ ورسولَه حرمَا بيعَ الخمرِ والميتةِ والخنزيرِ والأصنامِ"، وجاءَ عن النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ أنه قالَ: "لعنَ اللهُ الخمرَ، وشاربَها وساقيَها، وعاصرَها ومعتصرَها، وحاملَها والمحمولَة إليه، وبائعَها وشاريَها، وآكلَ ثمنِها".