- دائما و ككل يوم يراه الناس خارجا من بيته و كأن العالم كله خلق له ، إبتسامة عريضة على محياه و نور يتلألأ داخل عينيه ، مستقبلا نهاره بصدر رحب ، و كأنه يتحكم في قدره و تلاعبات الزمن ، بهمة و نشاط غير منقطعين يواجه عمله المضني ، حتى أصدقاؤه و زملائه يندهشون من طاقته و عنفوان شبابه ، يغارون منه و يحسدونه على السعادة التي يعيشها ، لكنهم يريدون و يبحثون على تقليده ، مع ذلك أناس كثيرون يلتفون حوله ، يحبون سماع صوته و جديد نكاته و تقليده للآخرين ، يلاعبهم و يمازحهم دون تصنع أو تكبر ، فالبساطة و التواضع هما صفاته ، يتسامح مع من يؤذونه ، يدخل الفرحة على قلب الحزين ، يقرض المحتاج ، لا يهمه المال فكل ما لديه ملك للآخرين ...
- ... و في المساء يعود لبيته بخطوات متثاقلة و كأنه لا يريد العودة ، تكاد تشبهه بالذي يقاد إلى المقصلة عنوة ... يدخل و يغلق وراءه بابا حديديا ضخما ، باب سجنه ، يفرق بينه و بن العالم الخارجي ، هناك تزول الإبتسامة و يغشا عينيه سواد عاتم و يخيم على البيت سكون رهيب كسكوت الأموات ... يقوم بتشغيل الراديو و يرتمي على فراشه معانقا وسادته و صانعا معها جسدا واحدا لا حراك له ... الموسيقى تنبعث من أحد أركان الغرفة ... إنه لا يسمعها و لا يفهمها ، يريد فقط أن يحس بأنه ليس لوحده ، أن يطرد الأرواح الشريرة عنه ... و تهرب من عينيه بعض القطرات الساخنة ... جارحة خده ، لا يعرف ماذا يحصل له و لا يعرف من هو ... يغوص في غيبوبة عميقة و كأنه يريد الهروب من الدنيا ... فهي مجرد مشاكل و أحزان ... فلما يحلو لنا العيش و نحن نعلم بوجود الموت و لما نفرح بشبابنا و نحن نعلم أن الكبر و المرض يلاحقاننا ، لماذا نحب والغدر موجود و لما نصادق الناس و الخداع من طبعهم ... أسئلة و استفسارات كبيرة تراوده كل ليلة ، لا يجد لها جوابا ، فمنذ مدة و هو يعيش حياة الضياع ... يعيش كالبشر في النهار و كالأموات ليلا ... ربما هو مريض ... بل مريض ... و الوحدة مرض من لا مرض له ... لقد جرب الحياتين فأيهما سيختار و إلى الأبد .