السلام عليكم
"يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. قال: فضرب في صدري وقال: والله! ليهنك العلم أبا المنذر." الراوي: أبي بن كعب، المحدِّث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 810، خلاصة حكم المحدث: صحيح ...
أعظم آية في كتاب الله عز وجل آية الكرسي (اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) البقرة) ...
لقد تضمنت هذه الآية الأعظم في كتاب الله عشر جُمل كل جملة لها معنى عظيم جداً. تفتتح هذه الآية العظيمة بالثناء على الله (اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ) فهو عز وجل المعبود حُباً وهو المألوه تعظيماً لا أحد يستحق هذا إلا هو عز وجل وهي أيضاً تنفي كل معبود سوى الله عز وجل ففي الأرض معبدات كُثُر بل عُبدت الملائكة ولكن كل ما سوى الله عز وجل لا يستحق ذلك ...
ثم قال عز وجل مثنياً على ذاته العليّة بالحياة والقيومية (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) والحيّ والقيوم اسمان عظيمان بل قال جمع كثير من السلف أنهما اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وما ذاك لأنهما جامعان لكمال الأوصاف والأفعال، كمال الأوصاف في اسمه الحيّ وكمال الأفعال في اسمه القيّوم فإن معنى الحيّ ذو الحياة الكاملة فحياته عز وجل أزلية أبدية فلم يزل ولا يزال حيّاً كاملة من جميع أوصاف الكمال فغلمه كامل وقدرته كاملة وسمعه كامل وبصره كامل وسائر صفاته على الأكمل ...
ثم سمّى نفسه عز وجل باسمه القيوم وهو صيغة مبالغة تعني أنه القائم على نفسه فلا يحتاج أحداً من خلقه وهو القائم على غيره فكل أحد محتاج إليه ولهذا نقول في سورة الإخلاص (الله الصمد) الذي تصمد له الخلاشق في حوائجها ...
ثم لاتصافه بهذه الكمالات قال عز وجل (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) فلا يعتريه نعاس ولا نوم فالنوم معروف والنعاس هو مقدمات النوم فسبحان من تعرّف على عباده بكمالاته ولله المثل الأعلى كل قائم من الناس على الناس كل ملك من الملوك له جنود وقوات وأتباع مهما بلغوا في القوة ومهما بلغوا في الحيطة والصيانة لا بد وأن يعتريهم نقص، الملك نفسه تأخذه سنة ونوم، الأتباع أنفسهم يحتاجون إلى تتابع في المتابعة وهو ما يُعرَف بالورديات هذا يداوم وهذا يأخذ راحة كل ذلك لكمال نقصهم، أما الله عز وجل وله المثل الأعلى فهو حيّ قيوم لا يحتاج لأحد وكلٌ محتاج إليه ...
أما الجملة الرابعة في هذه الآية فهي تمدّحه عز وجل بكمال ملكه فيقول سبحانه (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) له وحده لا شريك له ثم لما أبان اختصاصه بهذا قال عز وجل في الجملة الخامسة من هذه الآية العظيمة (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) من الذي يستطيع أن يتوسط للغير لجلب نفع أو دفع ضٌرٍّ إلا بإذنه عز وجل حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يشفع يوم الموقف للخلائق من الكرب الذي أحاط بهم وأصابهم همّ وغمّ لا يعلمه إلا الله عز وجل حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه أعظم الناس جاهاً عند الله عز وجل مع هذا لا يشفع إلا بعد أن يستأذن من ربه عز وجل لكمال سلطانه سبحانه ولكمال هيبته وجلاله وذلك أنه كلما كمُل السلطان صار أهيب للملك وأعظم. وتدبر هذه الآية العظيمة في سورة النبأ (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) جبريل (وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) النبأ) ...
وأما الجملة السادسة التي اشتملت عليها هذه الآية العظيمة هي قوله عز وجل (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) فالله عز وجل يعلم الأشياء كلها علماً تاماً شاملاً جملة وتفصيلاً وكم تمدّح عز وجل بكمال علمه في كتابه قال تعالى (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59) الأنعام) علمه عز وجل أحاط بكل شيء علم تام ليس كعلم عباد الله المسبوق بالجهل المصحوب بالنسيان، (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52) طه) فهو عز وجل يعلم ما بين أيديهم يعلم ما يستقبله الناس ويعلم ما خلفهم فالناس محفوف علمهم بالنقص من جهتين بجهلهم لما يُستقبل وبنسيانهم لكثير من الماضي بل بخفاء كثير من الأحداث عليهم هذا إن لم ينسى الأحداث التي مرت به بنفسه فكيف يذكر أحداثاً مرّت بغيره؟! ...
ثم أكّد سبحانه هذا المعنى في الجملة السابعة فقال عز وجل (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) الله أكبر! لا يحيط الخلق بشيء من علم نفسه فلا يعلمون شيئاً من أسمائه ولا من صفاته ولا من أفعاله إلا بما أطلعهم عليه عز وجل كما لا يحيطون بشيء من العلم المبثوث في السموات والأرض إلا بما شاء أن يُعلمهم إياه. تأمل في هذه العلوم التي ملأت الدنيا، علوم الأفلاك، علوم البحار، علوم الأجنة، علوم النفس، علوم الشريعة إلى غير ذلك من العلوم كلها ذرّة صغيرة في جنب علم الله عز وجل. هنا ينبغي أن يُنكّس المؤمن رأسه وأن يتدبر جيداً معنى عظيماً وهو أن الله تبارك وتعالى ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظاً أكبر ولا زاجراً أعظم من أنه عالمٌ سبحانه بكل ما يعمله خلقه، رقيب عليهم ليس بغائب عما يفعلون ولهذا ضرب العلماء لهذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم مثلاً ليصير به كالمحسوس فقالوا: لو فرضنا أن ملكاً قتّالاً للرجال سفّاكاً للدماء شديد البطش والنكال على من انتهك حرماته ظلماً سيّافه قائم على رأسه وبساط الموت ممدود أمامه والسيف يقطر دماً وحول هذا الملك الذي هي صفاته حوله جواريه وأزواجه وبناته فهل ترى أحداً من الحاضرين يهمّ بريبة أو بحرام يناله من بنات ذلك الملك وأزواجه؟! وهو ينظر إليهم عالم بحركاتهم مطّلع على نظراتهم؟ لا وكلا، بل جميع الحاضرين يكونون خائفين وجلة قلوبهم خاشعة عيونهم ساكنة جوارحهم خوفاً من بطش هذا الملك الظالم. ولا شك ولله المثل الأعلى أن رب السموات والأرض جل وعلا أشد علماً وأعظم مراقبة وأشد بطشاً وأعظم نكالاً وعقوبة من ذلك الملك وحماه في أرضه محارمه فإذا لاحظ الإنسان الضعيف أن ربه جلّ وعلا ليس بغائب عنه وأنه مطلع على كل ما يقول ويفعل بل وما ينوي لان قلبه ودمعت عينه وخشي من ربه سبحانه وأحسن عمله لله جلّ وعلا ...
من الجُمَل العظيمة التي اشتملت عليها آية الكرسي وهي الجملة الثامنة قوله سبحانه مثنياً على نفسه وذاته العليّة (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) أي شمل وأحاط، والكرسي كما قال ابن عباس رضي الله عنهما هو موضع قدمي الله عز وجل وهو بين يدي العرش كالمقدمة له، قال العلماء إذا كان هذا وصف الكرسي والكرسي وسع السموات والأرض والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ألقيت في صحراء عظيمة فإن المؤمن يستدل بذلك على عظمة الله جلّ وعلا فإن عظمة المخلوق دليل ساطع على عظمة الخالق وهذا كله يدل على سعة هذه المخلوقات العظيمة وهي بالنسبة لنا عالم من عالم الغيب ولهذا قال الله تعالى (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6) ق) ولم يقل أفلم ينظروا إلى الكرسي والعرش لأن هذه أمور لولا خبر الله لم نعلم بها...
ثم قال عز وجل (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا) لا يثقله ولا يشق عليه حفظ السموات والأرض. بالله عليك أطلِق فكرك هنا: كم في السموات من نجم؟ كم في السموات من كوكب؟ كم في السموات من ملك؟ كم في الأرض من نفس منفوسة؟ كم فيالأرضمن دويبة ودابّة؟ كم في الأرض من طائر؟ كم في الأرض من حيوان؟ كم على الأرض من نبات؟ من الذي يحفظهم؟ من الذي يكلؤهم؟ من الذي يرعاهم؟ (قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ (43) الأنبياء)...
ثم ختمت الجمل العظيمة التسع بالجملة العاشرة التي امتلأت ثناء على الله العظيم في ذاته العلية فقال عز وجل (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) فهو سبحانه ذو العلو المطلق والعظمة المطلقة في ذاته وسلطانه وصفاته ...
هذه نزر يسير من معاني هذه الآية العظيمة وما تركناه فضلاً عما خفي علينا أعظم وأكبر وإن مؤمناً يقرأ هذه الآية بتأمل وتدبر في اليوم عدة مرات ليتساءل كيف يستمر مؤمن يقرأها على معصية ذي العظمة والملك والجبروت؟! إن عبداً يقرأ هذه الآية العظيمة ويتأملها أدنى تأمل كيف يحزن ويقلق بشأن رزقه وحفظه وهو يعلم أن الله يحفظ السموات والأرض؟! وهو يعلم أن الملك ملك الله وأنه عز وجل قد تكفّل بأرزاق عباده؟! كيف يمتنع القلب من تعظيم أحد خوفاً منه خوفاً عظيماً وهو يعلم بعض معاني هذه الآية؟!...