" طاب ولا ما زال " العادة
القديمة الجديدة … يوم سعيد ومرهق للأطفال ..لعل عادة " طاب ولا ما زال "من ال
عاداتالتي تنفرد بها منطقة
وادسوفعن باقي مناطق الجزائر .. وهي عادة وإن كانت خاصة بالأطفال
فإنها تشغل الجميع .. وتعتبر بحق مهرجان طفولي عفوي يميز يوم " القدري "
ويضفي عليه بهجة .. ويستمر طوال النهار .. ففي الوقت الذي
يتجه فيه الآباء نحو المساجد لأداء صلاة التهجد حوالي الساعة
الرابعة فجرا يستيقظ الأطفال وكلهم فرحة وسرورا بقدوم اليوم
الذي ينتظرونه مذ أول يوم في رمضان .. وهم في هذا اليوم على
غير العادة في باقي أيام الشهر المبارك لا يفكرون بالصوم ..
فاليوم يومهم .. وعلى عجلة يغسلون وجههم ويرتدون أحذيتهم … بل بعضهم من
لهفته يخرج إما معمش العينين أو حافيا حاملين أكياسا بلاستكية .. يجولون من
شارع إلى شارع .. ومن حي إلى حي .. مرددين بأعلى
صوتهم أهزوجة اليوم….
" طاب ولا مازال
… كان طاب هاتوه .. كان مازال نزيدوا ساعة ونجوه " ..
طارقين على الأبواب دون خوف أو رهبة على رغم الساعة الباكرة
حيث أن العديد لا يزال يغط في نومه فوقت السحور لم يحن بعد
فلو كانوا في غير هذا اليوم لما تجرؤا
ولكان مصيرهم عقابا مؤلما .. ولكن في هذا الصباح على رغم إفسادهم للكثيرين
نومهم فإن الجميع لا ينزعج منهم بل ويرى فيهم شقاوته وطفولته فهي عادة
متوارثة .. أما ربات البيوت من أمهات وجدات وبنات فإنهن يستقبلنا الأطفال
بفرح عارم موزعين عنهم الحلويات والمكسرات داعين لهم بالصحة والعافية
ومهنئين واعديهم بوجبة غذاء مميزة .. ترى منظر الأطفال وهم يتزاحمون حول
تلك السيدة أو الحاجة وكأنهم نحل .. يحدثون فوضا بصياحهم وتهافتهم مما
يحذوا ببعض النسوة لرمي الحلوى والمكسرات من أيديهن .. يلتقطها الأطفال
قبل أن تسقط على الأرض .. من بيت إلى بيت يزداد صراخ الأطفال وهرجهم ..
تختلط أصوات الأهازيج .. وحده يظل
" طاب ولا
مازال .. كان طاب هاتوه ..كان مازال نزيدوا ساعة ونجوه " المتردد
في أرجاء المدينة طوال اليوم … يسرع الأطفال بعد ذلك لبيوتهم مع
قرب وقت مدارسهم ( في أيام الدراسة طبعا ) وهم مزهوون بصباحهم ويتفاخرون
بينهم أيهم جمع من الحلوى والمكسرات أكثر من غيره .. ولا
ينتبه الأطفال كثيرا في هذا اليوم المميز إلى
درس المعلم فالكل مشغول بالكلام الجانبي عن جولة الصباح وعن حصة البسكويت …
والمعلمين يغضون الطرف عن الوشوشات في هذا اليوم بل ويشارك بعضهم فرحة
الأطفال فيروي تجربته لهم أو يستمع لمغامراتهم ..وما أن يخرج
الأطفال من مدارسهم حتى يهرعون مسرعين لبيوتهم يرمون محافظهم حاملين
ملاعقهم فالوقت وقت غذاء حيث تشتم رائحة
" الكسكسي "الطبق التقليدي الأشهر في المنطقة وكأن
المدينة مطبخا كبيرا .. وأي كسكسي.. فهو
مميز بقطع اللحم الكثيرة و بمذاق
" المريسة " ( ماء التمر الموضع في الماء الذي
يسكب في المرق ليضيف نكهة الحلاوة على الكسكسي فيكون مذاقه طيبا ) وهنا
يحدث العجب .. فالأطفال يأكلون بشراهة .. فتجد في آخر النهار كثيرا منهم
من أصيب بالتخمة .. وتكثر البلاوي .. فالأطفال عندما يشبعون يمكرون فتراهم
يواصلون رحلتهم بين البيوت حاملين ملاعقهم مرددين أغنيتهم وماأن توضع القصع
حتى يتخطفون اللحم ثم يدسون الكسكس في التراب لرغبة أهل
الدار في وجوب أكلهم من
" ملحهم " كما يقولون إذ أغلب أفنية البيوت بها رمل لطبيعة
المنطقة الصحراوية ويتظاهرون بأنهم أكلوا ويشكرون أصحاب البيت وهم يتلامزون
ويتغامزون ويتضاحكون في شقاوة مكررينها في أكثر من بيت إلى
أن ينال منهم التعب ..
وبالإضافة إلى أكلة الكسكسي تقدم العائلات للأطفال
الحلويات والمشروبات بخاصة حلويات " الزلابية
" وبعض من الحلوى المصنعة خصيصا للعيد ..
صدقة على الموتى وزيادة قربة وصلة رحم بين
الاحياء ..
لكن اليوم لا ينتهي هنا عند الأطفال بل ما أن يعودوا إلى
بيوتهم مثقلين بما أكلوا حتى يجدوا أطباقا من الكسكس وغيرها
من المأكولات التقليدية كـ "
الشخشوخة البسكرية "
" وشخشوخة الظفر " و" البركوكس " وغيرها .. لكن هذه
المرة ليس لأكلها فهم لم يعودوا قادرين على ذلك وإنما لتوزيعها على أفراد
الأسرة والجيران والأصحاب ولا ينسون الفقير والمحتاج حيث أن ربات البيوت
يتذكرون في هذا اليوم الأحبة الذين فقدوهم خلال السنوات الماضية فيطبخون ما
كانوا يحبونه في حياتهم ويوزعونه " صداقة "
بمعنى صدقة على حد قولهم .. فتسمع هذه تقول لجارتها " هذي
صداقة على أمي الغالية الله يرحمها … كانت تحب البركوكس " وتلك تقول لولدها
خذ هذا عند خالتك وقل لها " قتلك ماما مبروك عليكم وهذا
الكسكسي إلي كان يحبه بابا " وهكذا … وطبعا لا
ترجع الأطباق خالية فهي ترجع محملة بما طبخ أهل البيت المرسل إليهم
وتتصادف أن يجتمع في ذلك اليوم على مائدة الفطور أكثر من كسكسي وأكثر من
شخشوخة وأكثر بركوكس وغيرها كثير .. فمثلا تجد
الأخوات والإخوة يطبخون ذات الشيء لأنه حبيب والده المرحوم
أو والدتهم .. وقد تنسق بعض الأخوات فتطهي هذه أكلة الوالد وتلك أكلة أخيهم
المتوفي … وهكذا .. في جو يملؤه الشوق للأحبة وصلة الرحم وكل
معاني البذل والعطاء …
الأشفاع " صراير البخور والجاوي " وختام الذكر
الجكيم " دعاء ورجاء " ..
وإذ ينتهي يوم الأطفال والنساء الطويل والممتع والمرهق مع
رفع آذان المغرب وتناول الفطور فإن يوم " القدري " لا ينتهي … فالرجال كما الأولاد كما
النساء يهرولون نحو المساجد زرفانا ووحدانا ..الرجال
والأطفال يلبسون " الملاليط والقداوير " " ( القمصان
المخيطة بالطريقة التقليدية ) الناصعة البياض .. قلوبهم متلهفة لبركة هذه
الليلة .. تغص المساجد بمريديها حتى أنك لا تجد مكانا إذ
أتيت للصلاة قبل الآذان بدقائق فكيف إذا جئت بعده تجد في محراب الإمام
" صراير البخور والجاوي " وهي أكياس
من الكتان تحفظ بها أنواع من البخور يفضل الأهالي وضعها
أمام الإمام لتنال بركة ختم القرآن فمعظم المساجد تختم القرآن في هذا اليوم
ويتوارثون على أن ذلك يطرد الشيطان عند تبخيرها في
البيوت ويحتفظون به عاما كاملا .. وإن كان بعض الأئمة قد
نهوا عن ذلك معتبرينها بدعة فإن الشيوخ والعجائز لا يزالون
حريصين عنها رافضين تأويل المتأولين يقسمون أنهم يقصدون وجه
الله العظيم ونيتهم تلمس بركة القرآن .. وأيّ كان فإن
الجو الإيماني في هذه الليلة لا يوصف إذ الأكف متجهة نحو
السماء والقلوب معلقة برجاء العفو يزينها ختم القرآن الكريم
ودعائه المنطلق من حناجر الأئمة المصحوبة بتأمين المأمومين فتخشع القلوب
وتدمع العيون … يعلو النحيب وصوت الرجاء المصحوب بالندم والتوبة .. وما أن
ينتهي الإمام من الصلاة بالتسليم حتى يتهافت المؤمنين لتقبيل بعضهم والسلام
مهنئين ومباركين داعين الله ان يتقبل الصيام والقيام وراجين أن يلتقوا
العام القادم فتسمع " كل عام وأنتم بخير .. الله
يتقبل .. يعود ونحن حيين ( أحياء ) " بينما تلمح دموع البعض تسابقه
وقد إنزوى في زاوية من زوايا المسجد فهذا يتذكر أخ كان يصحبه قد وافته
المنية قبل أيام قليلة من رمضان .. وآخر يبكي لعجز والده عن المجيء فلقد
أقعده المرض .. وذلك يتذكر صديق يؤدي الخدمة العسكرية بعيدا عن الأحبة
والأهل .. فكل ودعائه فواحد دعاء رحمة والآخر دعاء رجاء بالشفاء .. والأخير
دعاء بالعودة السالمة وبالمؤانسة في الغربة .. لا يخرج المصلين من المسجد
وإنما يسهرون فيها لآخر الليل ففي هذا المسجد حلقة ذكر
وجلسة إنشاد ومسجد آخر يقيم حفلة تكريم لحفظة القرآن .. وفي مساجد
أخرى يجلس الأحبة يتبادلون الحديث والنكت الطريفة المسلية وأحاديث رمضان ..
يلتمسون من بعضهم السماح " فالغُش " ( الغضب
) كثيرا ما يفعل فعلته في أيام الصيام .. لكن القلوب تأنس في هذا اليوم
تسمع هذا يخاطب الآخر " الله
يسامحنا جميعا .. ما الله غفور يا أخي " " الله يسمح ويغفر
ما سمحك ( من الحُسن ) يا سيدنا رمضان " "
الله يعيده علينا بلا تغشاش ( الغضب ) هههههه "
وللنساء في ليلة القدري نصيب من
المسامرة ..
أما النسوة فيتحلقنا في أحد البيوتات
يتبادلنا المسامرة والحديث عن تحضيرات العيد وسط مباهاة هذه بصنعة يديها (دلالة على الإتقان ) وتلك " بخبرتها
في صناعة الصعب من القاتو ( الحلوى والبسكويت ) كالبقلاوة
والمقروض والمقرقشات .. وسط نوادر
الأيام الخوالي وكلام غلبة رمضان و
الجاري ( شربة محلية ) الذي وضع فيه بدل الملح السكر .. و الخميرة ( خبز الدار ) المصفطة ( الغير متقنة ) ..
وعن ويلاتهن من تشراط ( كثر
شروط ) الأولاد والأزواج " ما عاجبهم
شيء أي لم يعجبهم " تقول احد النسوة وسط تعليقات
الجالسات …
الأطفال يلعبون لساعات متأخرة خارج البيت … حيث المفرقعات
والشقاوة والعراك ( الخصومة ) .. في جو نادر وفريد لا
يتكرر غلا مرة واحدة كل عام ..
ليلة القدري مناسبة للطهارة (
الختان ) وفق العادات
التقليدية ..
للعلم أن بعض الأسر تقوم بــ " طهارة " ( ختان ) الأولاد
في هذا اليوم .. فهذه السُنة يحرس الجزائريون على القيام بها في المناسبات
الدينية كمولد الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام ( ذكرى المولد النبوي
الشريف ) أو عند قدوم الحجاج من رحلة الحج أو في ليلة القدر طبعا .. وتلك
حكاية حلوة فالولد يلبس القميص التقليدي الأبيض
وتحنى يديه ورجله بالحناء ويلبس الطربوش الأحمر المرصع بخميسه والسيف
الذهبيين .. تحمله أخته لتطوف به الشوارع ووراءها
أطفال الأسرة والحي وهم يشدون الأغاني الشعبية المعبرة عن هذه المناسبة
وبعض الأهازيج الدينية تتخللها لازمة " اللهم صلي
على النبي .. حوته ( سمكة ) تمشي .. حوته تجيء " رجاءا في دفع العين
والحسد .. لتتعالى الزغاريد الطفولية
المضحكة .. قبل ان يعودوا به المنزل حيث العرس قائم .. فالأسر تعتني عناية
خاصة بالختان يصل حد ذبح الشاة والطبخ .. والعادة أن يكون للأسرة " طهار واحد " ( الذي يقوم بعملية الختان ) إذ
أن العادة أن يختن جميع الإخوة بل وأفراد الأسرة الكبيرة من
طرف ذات الشخص .. ووسط فرحة عارمة توزع الحلويات والمشروبات وتتعالى
زغاريد النسوة ودعوات الرجال …
آخر اليوم تعب .. إجهاد .. وأمل بإدراكه العام
القادم ..
في حين يهرع الأطفال والرجال إلى البيوت في ساعة متأخرة
للنوم علهم يعوضون شيئا من تعب اليوم تجد الحراير
( النساء ) يتجهن نحو الكوزينة ( المطبخ
) يغسلون الأطباق والصحون المتراكمة ويحضرون ما كتب من وجبة السحور التي
ستكون بلا شك غير دسمة وبسيطة وكلهن عزم على يوم قادم به
الكثير من الأعمال المنزلية من عملية تنظيف وصنع الحلوى فالقدري آذن بقدوم العيد …
كل عام ونحن وانتم بخير …
هذه بعض طقوس وعادات
ليلة القدري في منطقتي واد
سوف
بوطني الحبيب الجزائر ببلدي العزيز الكبير العالم
العربي والإسلامي المشرق .. التي نحاول الحفاظ عنها على رغم
زحف العادات
الدخيلة على المجتمع والغريبة عن روح الإسلام وفضيلة الشهر الكريم ..
داعيا الله في هذه الليلة المباركة العفو والعافية والأمن والآمان لجميع
المسلمين والبشرية قاطبة .. فيا مزيل الكروب أزل كروبنا وفرج همومنا
وأعتقنا من النار … آمين ..أمين ..