موضوع: التنازل عن بيت المقدس- عندما تباع المقدسات الخميس 13 مايو 2010 - 20:51
بيت المقدس .. ما اشبه اليوم بالبارحة
الزمان/1 ربيع الآخر 626 هـ.
المكان/بيت المقدس ـ فلسطين.
الموضوع/السلطان محمد الكامل الأيوبي يتنازل طواعية عن بيت المقدس للصليبيين.
الأحداث/
مقدمة:
مفكرة الإسلام: من يملك حق التكلم أو التفاوض عن مقدسات هذه الأمة؟ أو يتخذ قرارات بشأنها؟ من يستطيع أن يحدد مصير هذه المقدسات أو يتصرف في أمرها؟
إن من يملك هذه المقدسات هو وحده الذي يستطيع أن يجيب عن هذه الأسئلة، والإجابة الوحيدة عن هذه الأسئلة أن الأمة الإسلامية بأسرها عرب وعجم قريب وبعيد هي صاحبة ومالكة كل القرارات الخاصة بهذه المقدسات، فلا يستطيع أحد مهما كان شأنه وعلو مكانه أن يتصرف وحده فيما يخص مقدسات الأمة الإسلامية، فهي ملكية عامة لكل مسلم فيها نصيب باستخلاف الله عز وجل لهذه الأمة على هذه المقدسات ، وهذا الحق العام والرأي الجماعي فيما يخص تلك المسألة هو الضمان الأمثل من الوقوع في أمثال تلك الخطايا الكبرى التي ارتكبت قديمًا وترتكب حديثًا والضحية في النهاية مقدسات الأمة وكرامتها.
البلاد بعد صلاح الدين: أنقذ الله عز وجل أمة الإسلام بصلاح الدين الأيوبي في فترة حاسمة من حياة ومصير البلاد وتصدى صلاح الدين لنيل شرف مهمة استعادة بيت المقدس، وقاد حملة جهادية ضد الوجود الصليبي بالشام طيلة عشرين سنة استطاع خلالها أن يستعيد بيت المقدس سنة 583 هـ، ويتصدى لثلاثة حملات صليبية متتالية، ثم مات رحمه الله في 27 صفر سنة 589هـ. وبموته تفرقت البلاد بالشام ومصر بعدما كانت مجتمعة كلها تحت قيادته بين أبنائه وهذا التفرق دائمًا قرين الخذلان والفشل وأول مقدمات التسلط والاستعداء، وبالفعل دب الخلاف بين أبناء صلاح الدين خاصة؛ بين العزيز عثمان [صاحب مصر]، والأفضل علي [صاحب دمشق]. ـ تعدى هذا الخلاف إلى طور الحرب والقتال مما استدعى تدخل الملك محمد أبي بكر الأيوبي الملقب بالعادل، أخي صلاح الدين، ورفيقة على درب الجهاد المقدس من البداية، وكان من أكثر الناس حزمًا وسياسة وعدلاً استطاع أن يقضي على هذا الخلاف وأن يتخذ الخطوة الصحيحة في هذا الظرف الراهن، فأعاد توحيد الجبهة الشامية والمصرية تحت إمرته وعادت للبلاد وحدتها وقتها. [[وفي ذلك درس وعبرة في أسباب النجاح وعوامل الفشل مهما كانت قوة البلاد وتقدمها طالما كانت متفرقة ومختلفة فإن الهزيمة والفشل هو طريقها ولو بعد حين]]. ـ ورغم حكمة الملك العادل الأيوبي ورؤيته لما جرى للبلاد عندما تقسمت بين أبناء صلاح الدين وحجم الخلاف الذي وقع بينهم إلا أنه لم يستفد من هذا الدرس المجاني من أبناء أخيه وأقدم على نفس الخطأ فقسم البلاد بين أبنائه الثلاثة كالآتي: ـ الأمير محمد الملقب بالكامل: على الديار المصرية وفلسطين. ـ الأمير عيسى الملقب بالمعظم: على دمشق وباقي الشام. ـ الأمير موسى الملقب بالأشرف: على منطقة الجزيرة 'بين الشام والعراق'. ولاستمرار الحملات الصليبية على الشام ومصر لم يظهر بين هؤلاء الثلاثة خلافات بسبب تصديقهم للحملات الصليبية واشتغالهم بقتال الأعداء عن الخلافات المتوقعة.
ـ الحملة الصليبية الخامسة: ـ لم يكف أبدًا الباباوات في روما عن إثارة عزائم وحفائظ ملوك وأمراء أوروبا من أجل استئناف سلسلة الحملات الصليبية التي هدأت قليلاً بعد وفاة صلاح الدين والفشل المدوي للحملة الصليبية الرابعة التي بدلاً من أن تتجه لقتال المسلمين بالشام اتجهت إلى قتال النصارى الأرثوزكس بالقسطنطينية وذلك سنة 600هـ، واستغل البابا 'أنوسنت' الثالث فرصة موت الملك المجاهد العادل الأيوبي وحشد جيشًا كبيرًا يقوده الفارس 'جان دي بريين' وكان مرشح البابوية ليكون ملكًا على بيت المقدس إذا استعادها من المسلمين.
ـ قررت هذه الحملة التوجه إلى دمياط لاحتلال مصر التي تمثل مركز الثقل في المنطقة وكان أمير مصر وقتها هو محمد الكامل الذي تصدى للحملة بمنتهى الشجاعة وطلب المساعدة من أخويه بالشام والجزيرة، بفضل الله عز وجل وحده ثم بطولات الشعب المصري استطاع المسلمون هزيمة تلك الحملة الخامسة التي ارتكب قائدها خطأ تعبويًا عسكريًا أدى لوقوعه في منطقة غيطان النيل وغرق معظم أفراد الحملة الجائرة.
ـ الإمبراطور فريدريك الثاني: ـ توقف نشاط الحملات الصليبية بعض الوقت حتى حركها الإمبراطور فريدريك الثاني إمبراطور الدولة الجرمانية المقدسة وذلك سنة 625هـ بأن لبس شارة الصليب ـ وهذا إعلان بالخروج لحملة صليبية جديدة ـ وكان الخلاف بينه وبين بابا روما 'هونوريوس الثالث' شديدًا وذلك لأن فريدريك قد وعد البابا يوم اعتلائه لعرش الدولة الجرمانية بأنه سيشن حملة صليبية هائلة يستعيد بها بيت المقدس، ثم تراخى فريدريك عن ذلك واشتغل بأملاكه في منطقة صقلية ولومبارويا مما أدى لاصطدامه مع بابا روما الذي كان يعلن دائمًا أن منطقة إيطاليا وما حولها أملاك خاصة بالبابوية. ـ أقدم فريدريك على خطوة أخرى زادت من حنق وغضب 'هونوريوس' عليه وذلك أنه تزوج من إيزابيلا ابنة جان دي بريين قائد الحملة الخامسة الفاشلة على دمياط والذي كان مرشحًا من قبل ـ كما ذكرنا ـ لإمارة بيت المقدس، وقد أعلن فريدريك بعد هذا الزواج أنه الأحق بملك بيت المقدس، وأظهر أنه خارج بقيادة الحملة الصليبية السادسة على بلاد الإسلام. ـ خرج فريدريك يقود الحملة الصليبية السادسة دون أن يأخذ موافقة البابا مما أدى لغضبه عليه بشدة ثم تحول هذا الغضب إلى ثورة عارمة عندما ترك فريدريك الأسطول وعاد مسرعًا بحجة المرضى ودوار البحر، وهذا الأمر عمَّق الخلاف بشأن تلك الحملة فكان من المقدر لها أن تفشل كما حدث مع الحملة الرابعة والخامسة، ولكن الأغرب هو ما جرى على الجبهة الداخلية للمسلمين.
ـ المسلمون إلى أين؟ ـ كلما كانت الظروف عصيبة والمواجهة على أشدها كلما كان ذلك يقتضي من المسلمين الحيطة والحذر والمرابطة والاتحاد، خاصة من كان على ثغور الإسلام، ونعني بذلك الشام ومصر، ولكن الأمر العجيب حقًا أن يشاهد المسلمون ما جرى لهم مرات ومرات جراء تفرقهم واختلافهم وتناحرهم وأن عدوه على بابهم ينتظر هذه الفرصة لينقض عليهم ... وقد حدث ... ومع ذلك هم يعادون الكرة المرة بعد المرة ثم هم لا يتعظون ولا ينتهون، فلقد سبق وأن تسلط الصليبيون في الحملة الخامسة عندما افترق الصف وتناحر الإخوة، ومع ذلك عادت النغمة الرديئة فاختلف الأمير محمد الكامل مع أخيه الأمير عيسى المعظم على الحدود المشتركة بينهما، وطمع كلاهما في الآخر، واشرأب الخلاف بينهما ونجمت الصراعات العلنية، وطارت أخبار ذلك للصليبيين فقاد فريدريك حملته السادسة.
ـ ظهر تهديد آخر على ساحة الأحداث يوضح مدى ضياع الرابطة الإيمانية بين المسلمين وكيف أن الدنيا أهلكتهم كما أخبر بذلك الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهذا التهديد كان متمثلاً في القبائل الخوارزمية المسلمة التي هاجرت من ديارها تحت وطأة الاكتساح التتاري لبلادهم، وكانت هذه القبائل قوية وشرسة وصمدت طويلاً أمام التتار، ولكنها انهارت أمام الضربات الساحقة للتتار، توجهت هذه القبائل هائمة على وجهها ناحية منطقة الجزيرة والشام واشتبكت في معارك كثيرة مع المسلمين هناك، مما أوجد ضغطًا كبيرًا على المسلمين بالشام فمن يواجهون؟ الصليبيين أم إخوانهم المسلمين.
ـ بريق الكراسي: ـ عاود فريدريك المسير ناحية الشام بعد ضغوط كنسية ولحق بالحملة عند مدينة عكا وانضم إليه ملك جزيرة قبرص الصليبي 'آندرو دي لوزينان' فاستولت الحملة على مدينة صور وصيدا، وانتشرت الشائعات عن قوة هذه الحملة وضخامتها، وعم الإرجاف بالشام ومصر، ولكن فريدريك كان يضمر في نفسه شيئًا آخر؛ فلقد كان يخطط منذ خروجه بهذه الحملة على عدم القتال والتفاوض مع المسلمين.
ـ كان فريدريك يخشى على أملاكه بأوروبا إذا دخل في قتال طويل مع المسلمين خاصة بعد صراعه وخلافه الحاد مع بابا روما 'هونوريوس' قبل الخروج للقتال، فأرسل إلى الأمير محمد الكامل أمير مصر يعرض عليه أن يتنازل محمد الكامل عن بيت المقدس ـ وكان من ضمن أملاكه مع مصر ـ نظير أن يرجع فريدريك عن غزو مصر وباقي بلاد الشام، ويتعهد بمنع الحملات الصليبية مهما كانت ومن أي مكان على الشام ومصر، ويعقد حلفًا مع المسلمين لمدة عشر سنين ونصف لا يحاربهم فيه أبدًا، وأيضًا يمنع المدد والمؤن عن باقي الأمراء الصليبيين بالشام، ويتعهد أيضًا بحفظ المسجد الأقصى وإعطاء المسلمين الحرية التامة في ممارسة شعائر دينهم.
ـ كان الأمير محمد الكامل يحب الدعة والسكون ويكره القتال رغم بطولاته الرائعة في صد الحملة الصليبية الخامسة على دمياط، وكان أيضا محبًا للملك والإمارة، وقد أعماه بريق الكرسي وأثر ملكه وماله وضياعه على مقدسات الأمة فوافق على العرض الذي تقدم به فريدريك، وتنازل عن بيت المقدس في ربيع الآخر سنة 625هـ طواعية بلا ضرب ولا جهد، وتسلمها الصليبيون غنيمة باردة، وعُدَّ ذلك إهانة عظيمة ومصيبة كبيرة، وركب المسلمون في أرجاء البلاد الهم والحزن والبكاء عن هذا الخزي والدنية التي قام بها محمد الكامل الذي آثر الدنيا وحبها عن الدفاع عن المقدسات.
ـ وكان محمد الكامل صاحب همة في العمل والعمران وتقدمت الديار لمصرية في عهده تقدمًا كبيرًا بفضل ما قام به من إصلاح الري وتحسين حال الزراعة، وبني المدارس العلمية، ولكن ما يساوي ذلك كله بجانب تفريطه في المقدسات من أجل مكاسب زائلة وأوهام فانية، فارتكب غلطة شنيعة أهالت التراب على كل تاريخه وجهاده السابق، وذهب ملكه بعد ذلك بقليل، فلا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، وبقيت ذاكرة الأمة تحفظ له هذه الغلطة البالغة.
ـ الزنديق الأكبر: ـ الأمر العجيب الذي يبكي العيون حقًا ويدمي القلوب فعلاً هو رد فعل الصليبية العالمية وكبيرها 'هونوريوس' على هذه المعاهدة بين الصليبيين والمسلمين؛ حيث أرسل إلى فريدريك يسبه ويشتمه ويقول له: 'إن الفرسان الصليبيين لا يذهبون إلى بلاد المسلمين من أجل التفاوض، وإنما من أجل القتال وسفك الدماء'. ثم أصدر قرارًا كنسيًا بحرمان فريدريك من الرحمة وطرده من الكنيسة للأبد، ومن يومها أطلق على فريدريك لقب 'الزنديق الأكبر'، واشتهر بهذا الاسم في كتب التاريخ الأوروبية، بل أرسل البابا له مجموعة خاصة من أجل اغتياله ولكن فريدريك نجا من هذه المحاولة.
[[يا لها من عصبية وحقد أعمى على المسلمين ما زال المسلمون يتجرعون لوقتنا الحاضر من حملات صليبية أمريكية وإنجليزية على بلاد المسلمين، فهم ما جاءوا للحرية ولا للعدل ولا للإصلاح، إنما جاءوا للسفك والقتل والاغتصاب واحتلال البلاد، واسألوا أهل العراق وسكان أبي غريب]].